يحيا شباب الحرية
بقلم: فاروق جويدة
بقلم: فاروق جويدة
في حياة الشعوب لحظات يكتبها الشهداء بعطر دمائهم الطاهرة وهي أغلي ما يملكون وفي صخب المزادات والصفقات ومواكب الانتهازيين والأفاقين
كانت ثورة شباب مصر يوم25 يناير واحدة من هذه الأحداث التاريخية الفريدة التي تغيرت معها كل الأحداث والحقائق والمزايدات ومواكب التدليس والاحتيال والنهب.. سقطت منظومة كاملة من الفساد والخيانة والدجل.. وظهر وجه مصر وهي تعانق شبابها القادم بعد سنوات عجاف طالت بين القهر والإذلال والاستبداد والتسلط..
لاح وجه مصر أمام العالم كله وأطلت بشموخها العريق الذي أسقطته مواكب الفساد وعادت لها ريادتها التي أطاحت بها مواكب الأقزام والسفهاء وحملة المباخر.. واستردت دورها الذي تاجر فيه السماسرة والعملاء..
خرجت مصر وعلي رأسها تاجها القديم تتناثر دماء الفرحة علي وجهها الجميل وهي تودع زمنا كئيبا جاحدا سفيها وتستقبل زمنا آخر وهي تحمل شهدائها الإبرار بين يديها تقدمهم قربانا للحرية وثمنا للشموخ والعدل..
في لحظة تاريخية فريدة تشبه المعجزات رغم أن زمان المعجزات قد مضي خرجت مصر بشبابها لتصبح حديث العالم كله.. كانت صيحات الشباب في ارجاء الكنانة تهز عروش العالم شرقه وغربه والشعوب تنظر إليها بكل مظاهر العرفان للملايين الذين زحفوا بجوعهم وفقرهم وأمراضهم يواجهون الطاغوت..
كانت الإرادة أقوي من صرخات البطون.. وكانت العزائم أقوي من الرصاص الحي وقنابل الدخان ومصفحات الأمن..
في هذه المحنة فقد الأمن ضميره وصوابه وعقله ومسئولياته..
عادت مصر العظيمة تبهر العالم كله وتبعث رسائل مجدها وشموخها من جديد.. ملايين البشر خرجوا إلي الشوارع يطالبون بالحرية والعدالة وهل هناك شيء أعظم من العدل والحرية والعدالة..إنها صرخة الأوطان والشعوب في كل زمان ومكان.. لقد خلقنا الله أحرارا.. وجعل لنا العدل ميزانا ولن يستوي إنسان حر يحلق في سماء الله مع إنسان آخر حصدت السجون سنوات عمره..
في بعض الأحيان تفقد الكلمات بريقها وتختفي وتصبح طيفا باهتا أمام الحقيقة.. وما حدث في ميدان الحرية وليس ميدان التحرير كما كنا نسميه كان أكبر من كل الكلمات وأعظم من كل الصفحات فحين تسيل الدماء يخبو كل شيء الكلام والسلطان والأموال والصفقات والنصابون والدجالون والقتلة..
خرجت مصر من سجنها وهي تعانق علي أبوابه المتهاوية وجوه شبابها الذي استطاع في لحظة دامية أن يخلصها من قيود العبودية.. والتسلط والطغيان..
ماذا أقول عن هؤلاء الشباب وهم أعظم هدية قدمتها مصر لنا ونحن نعيش خريف أيامنا ووحشة ليالينا..
ماذا أقول عن هذا السجن الكئيب الذي قضينا عمرنا نحاول الخروج منه وكان دائما يحطم أحلامنا..
ماذا أقول عن أجيال تساقطت أمام هذا الهيكل المتهاوي وعجزت عن اقتحامه أو الإطاحة به.. ماذا أقول عن هذا الطاغوت الذي غير ألوانه ووجهه الاف المرات ليبقي جاثما علي أحلامنا وأمانينا وزهرة شبابنا..
في منتصف ليل يوم الجمعة الدامي كانت حشود الأمن المركزي تقتحم صفوف الشباب وهم يتساقطون كأوراق العمر لتكتب مصر بدمائهم الطاهرة حياة جديدة لأجيالها القادمة بعد سنوات عقم طالت..
تذكرت يوم أن كنت في عمر هؤلاء الشباب في مظاهرات طلاب جامعة القاهرة في عام1968 واقتحام قوات الأمن المركزي لقاعة المحاضرات الكبري ونحن نتظاهر ضد نكسة67 ومن صنعوها كان أول ظهور لهذه القوات وكان استخدامها لأول مرة ضد شباب ثورة يوليو في كل جامعات مصر وسقط منا الشهداء وصعد منا الوزراء بينما توارينا نحن خلف أطياف الذكري نسترجع لحظات عشناها خارج الزمن..
ومن يومها وأنا أحلم أن أري يوم سقوط هذا الطاغوت الأمني الرهيب.. من يومها وأنا أنظر حولي كلما عبرت حشود الأمن المركزي وأقول متي أري هذا اليوم وهل أعيش لكي أراه.. وعشت ورأيته علي كوبري قصر النيل والمصفحات والعربات والحشود تتهاوي وتتراجع أمام ثورة الشباب المصري الغاضب انهارت حشود القهر علي رؤوس كهانها وانتهي السباق وتهاوي الطاغوت لتتعانق في سماء ميدان الحرية التحرير سابقا مواكب جيش مصر العظيم مع أرواح شهدائها الذين ماتوا تحت مجنزرات الأمن المركزي..
اندفعت حشود جيش مصر الذي شيدناه علي عيوننا ليبقي الدرع والأمن والكرامة والضمير كم كنت فخورا بيني وبين نفسي أن هذا الجيش يردد كل صباح نشيده الذي أهديته له منذ سنوات..
حين خلت الشوارع من قوات الأمن.. وحل الظلام علي مدينتنا الشامخة كان شباب الأحياء من المدنيين يقيمون المتاريس والحواجز ويقفون علي دبابات قواتنا المسلحة يحلمون بالحياة والأمن والكرامة..
لا أحد يعرف ـ وأن كان الحساب سيأتي ـ من الذي سحب قوات الأمن من الشوارع..
من أطلق اللصوص علي المحلات التجارية..
من الذي فتح أبواب السجون بكل ما فيها من التحصينات والأبواب الحديدية لتنطلق منها مواكب المجرمين في كل الشوارع والمدن..
من الذي أمر بإطلاق الرصاص الحي المحرم دوليا علي صدور شبابنا الثائر ليسقط300 شهيد كما ذكرت وثائق الأمم المتحدة..
من الذي أقام مذبحة كوبري قصر النيل ليسجل التاريخ واحدة من أكبر المذابح التي لم تشهدها مصر في أي عصر من العصور.. هل هي قيادات الأمن ام حكومة النهب والسرقة السابقة أم أن هناك أسماء أخري تنتظر حسابها مع التاريخ..
كانت آخر هدايانا لشهداء شبابنا الثائر قطيعا من الجمال والحمير والخيول وعربات الكارو التي اقتحمت ميدان الحرية بأعداد رهيبة من بلطجية الحزب الوطني لتسجل إحدي قصص التخلف بين من يركبون الجمال ومن يعيشون العصر..
كانت صور الجمال والحمير علي شاشات الفضائيات العالمية فضيحة مدوية في كل أرجاء الدنيا
لقد كتبت آلاف المقالات ومئات القصائد ولكنني أشعر اليوم بضآلة غريبة وإحساس بالعجز أمام هذا التاريخ العظيم الذي كتبه شباب مصر في ميدان الحرية أشعر أن ما حلمت به كل سنوات عمري قد تحقق في ليلة أسطورية كتبها هؤلاء الشباب بالدم علي وجه مصر الشامخ أشعر الآن أنني استعدت شبابي الذي قضيته وأنا أحارب أشباح الفساد والجهل والتخلف فشكرا لهؤلاء الذين.. ويبقي الشعر
نشيد الجيش
رسمنا علي القلب وجه الوطن
نـخيـلا ونيـلا وشعبـا أصيـلا
وصناك يا مصر طول الزمن
ليـبقـي شـبـابـك جيـلا فـجيـلا
علي كل أرض تركنا علامه
قلاعا من النور تحمي الكرامـه
عروبتنا تفتديك القلوب
ويحـميـك بـالـدم جيـش الكنـانـه
وتنساب يا نيل حرا طليقا
لتـحكـي ضفافـك معنـي النضـال
وتبقي مدي الدهر حصنا عريقا
بصـدق القـلـوب وعـزم الرجـال
يد الله يا مصر ترعي سماك
وفـي سـاحـة الحـق يـعـلو نـداك
ومادام جيشك يحمي حماك
ستمضي إلي النصر دوما خطاك
سلام عليك إذا ما دعانا
رســول الجـهــاد لـيــوم الفــداء
وسالت مع النيل يوما دمانا
لنـبنـي لمـصـر العـلا والرخــاء
أعادوني لشبابي..
تقف مصر اليوم بين عهدين.. عهد ما كان قبل25 يناير2011 وعهد ما بعد هذا التاريخ.. أشياء كثيرة تغيرت.. أصبح النيل أكثر شموخا وأصبح الوطن أكثر إيمانا.. حتي هواء الوطن أصبح أكثر نقاء بعد أن تكدست تلال التلوث في عيوننا وصدورنا وعقولنا زمنا طويلا..
أجيال توارت وراء أجيال.. ووجوه عبرت علي صفحة النهر الخالد وأحلام كثيرة في الحرية والعدل والمساواة سطرها قبلنا أبناء الشرفاء لهذا الوطن لتحمل لنا هذه الثورة المباركة التي أعادت لمصر وجها شامخا تصور البعض أنه انتهي.. وتعيد لنا إحساسا قديما بالكرامة تخيل البعض أنه رحل.. ليقف كل مصري الآن علي أبواب التاريخ رافعا رأسه ليكتب علي معابدها وآثارها وكنائسها ومساجدها وطرقاتها ومبانيها يحيا شهداء الحرية.. يحيا شهداء العدل.. يحيا شباب مصر العظيم..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق